قال: (ومن هذا الباب أن الله تعالى خيره -أي: خير الرسول صلى الله عليه وسلم- بين أن يكون عبداً رسولاً، وبين أن يكون نبياً ملكاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً).
فهذه من الحكم العظيمة جداً التي لا نجد مثلها إلا عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فتراه كيف يعلل هذا الكلام.
قال: (فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عبداً رسولاً؛ لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده، لا لأجل حظه، وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه؛ وإن كان مباحاً) فالله تعالى أعطاه الملك، وأباح له أن يتصرف، (كما قيل لـسليمان : (( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ))[ص:39]).
وقال أيضاً في الآية الأخرى: (( تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ))[ص:36]، فالريح يتحكم فيها، والجن يصرفهم، والشياطين يدبرهم كما يريد، فهذا أمر مباح له، والله تعالى أعطاه ذلك، ومكنه منه، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فاختار ما هو أعلى من ذلك: أن يكون عمله كله بأمر الله، لا بما يريد هو، ولو شاء لطلب ذلك، ولأعطاه الله تعالى إياه، فهو حلال، لكن اختار الدرجة الأعلى والأرفع؛ لأن ذلك هو مقتضى العبودية.
(ففي هذه الأحاديث أنه اختار العبودية والتواضع، وإن كان هو الأعلى هو ومن اتبعه) فهو الأعلى قدراً ومكانة هو ومن اتبعه صلى الله عليه وسلم، ولكنه اختار برضاه المسكنة، أي: التواضع لله عز وجل، والعبودية والإخبات (كما قال: (( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ ))[آل عمران:139].
وقال: (( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ))[المنافقون:8]، ولم يرد العلو، وإن كان قد حصل له) لأن الله تعالى يقول: (( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا ))[القصص:83]، وقد حصل له العلو من غير إرادة منه له، وهناك فرق بين أن تريد العلو لدعوتك، ولدينك، وبين أن تريد العلو لنفسك.
فالمؤمنون الأتقياء الصادقون الدعاة إلى الله تبارك وتعالى لا يريدون العلو لأنفسهم، ولا يريدون أن تكون لهم الكبرياء، ولا أن يكونوا هم الحكام، ولا أن يكونوا هم الآمرين والناهين المتسلطين، لكن يريدون العلو لدينهم، فإذا أعز الله تبارك وتعالى دينه، ومكِّن لهم، أي: لمن أدرك ذلك منهم، فـمصعب بن عمير وأمثاله لم يدركوا ذلك، وهذا لا ذم فيه؛ لأنهم لم يطلبوه، وإنما هذا من عند الله، فقد مكن دينه ودعوته، فتمكن أهلها.
يقول: (وقد أعطي مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره صلى الله عليه وسلم، وإنما يفضل الغني لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا تنفع بل قد يضر، وقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً على أمور من اللأواء والشدة ما لم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين).
فقد جمع الله له بين الأمرين، ففي حال الفقر عانى من الجوع صلوات الله وسلامه عليه، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من رديء التمر، وما كان يأكل في أكثر طعامه إلا من الشعير، وما أكل خبزاً حوارياً أو مرققاً، ولا جلس على إخوان قط صلوات الله وسلامه عليه، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من الشعير؛ قوتاً له ولأهله، وعصب على بطنه الحجر من الجوع، وفتح الله تبارك وتعالى عليه مع هذا أيضاً، فجاءته بعد ذلك الغنائم، وجاءه الخير، ومرت به حالات شدة صلى الله عليه وسلم مع هذا، ولو شاء التزود صلوات الله وسلامه عليه من ذلك لأعطي، فقد خير أن يعطى بطحاء مكة ذهباً، وخير أن يكون ملكاً رسولاً، فاختار غير ذلك، فكان -كما قال ابن رجب رحمه الله-: (نال أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين معاً).
وقد وافقه في ذلك -وإن اختلف المقدار- الجمع بين أعلى مقامات الشكر، وأعلى درجات الصبر؛ أبو بكر و عمر رضي الله تعالى عنهم، فقد وسع الله تعالى عليهما، وفتحت في أيامهما الفتوح، وجاءتهما كنوز الأرض؛ ومع ذلك كانا كذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه.